حين نحاول تعليم أبنائنا المعارف المختلفة، أو ندفعهم إلى بذل الجهد فيما نكلفهم من أعمال، وتكون تلك المحاولات بطريقة طوعية، فإنهم (يتعلمون ما نريده بصورة أسرع ويقومون بما نكلفهم به بصورة أتقن، أما حين يكون التعليم عن طريق التهديد، فإن أبناءنا لا يبذلون فيما يتعلمون من معارف، إلا الجهد الذي يكفي لإتمام صورة العمل المطلوب، أضف إلى ذلك أننا حين نكلفهم بعمل في ظروف تجعلهم فوق طاقتهم، فإننا نحكم عليهم ألا يعملوا شيئًا على الإطلاق، وإن حاولوا رغم ذلك القيام بما نريده منهم فإنهم لا يحسنون صنعًا) [اللمسة الإنسانية، محمد محمد بدري، ص(223)].
خذ العفو:
اعلم أيها المربي الفاضل أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فالله عز وجل خلق النفس ولها طاقة وقدرة لا تستطيع تجازوها، وعندما يكون على الإنسان عمل يجب أن ينجزه، فحينما لا يتمه على النسق المطلوب، فيجب أن نضع في اعتبارنا ونحن نقيِّم هذا الإنسان، هل كان هذا العمل في وسعه وفي قدرته أم لا؟
(ويضع الغزالي رحمه الله بعض الضوابط لمساعدة الآباء على حمل الأبناء على برهم، وعدم عقوقهم، فيقول: (يعينهم على بره ولا يكلفهم من البر فوق طاقتهم، ولا يلح علفيهم في وقت ضجرهم، ولا يمنعهم من طاعة ربهم، ولا يمنن عليهم بتربيتهم"، بل كان بعض الصالحين لا يأمر ولده بأمر مخافة أن يعصيه في ذلك فيستوجب النار، وهذا فقه عظيم من رجل السلف رضوان الله عليهم إذ أن نظرهم أبعد من حدود هذه الدنيا، وحبهم لأولادهم وإشفاقهم عليهم يتطلب مساعدتهم وعونهم على النجاة في الآخرة قبل كل شيء، فلا يكلفونهم ما لا يطيقون من الأوامر، بل يفكر أحدهم قبل الأمر: هل سوف يطيق الولد ذلك أم يعجز عنه فأسوقه بنفسي إلى التهلكة؟) [مسئولية الأب المسلم، عدنان حسن صالح باحارث، ص(211)].
ويوضح لك ابن القيم ـ أيها المربي ـ حال المعلم مع تلميذه، وهي ثلاثة أحوال:
(أحدها: أن يأمره وينهاه بما فيه مصلحته.
الثاني: أن يأخذ المربي من المتربي، ما يراه فيه من طاعة.
الثالث: قد يطيعه المتربي فيما يأمره أو يعارضه.
فإن عارضه المتربي ولم يطعه، وجب عليه أن يأخذ منه ما يستطيع من الطاعة، وما يقدر عليه من الأعمال مع قبول الأعذار، والعفو والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن عوراته) [مدارج السالكين، ابن القيم، (2 226)، بتصرف].
والتربية الصحيحة للأبناء هي التربية التي ترتكز في قيمها ومبادئها على أساس الرحمة والشفقة بالأبناء لا الزجر والعقاب (فإن التربية الصحيحة يجب أن تتركز على الرحمة والشفقة والمحبة والابتعاد عن القهر والعنف، حيث يقول ابن خلدون إن استخدام المعلم القهر مع المتعلم، يصاب المتعلم ضيق النفس في انبساطها وذهاب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل وحمله على الكذب والخبث خوفًا من العقوبة، وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقًا، فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب، وعلينا أن نهتم بالطفل الطالب ونعامله بما نعامل به أعز أولادنا من الحنو والشفقة عليه والإحسان إليه والصبر على ما يبدر من تقصيره.واعتقد إننا حينها سنحصل على حبه واحترامه ولن نحتاج حينها لعقوبة الضرب أو استعمال للعنف مع أبنائنا) [نقلًا عن جريدة الصباح].
الأعمال المنزلية مثال حي:
وإذا نظرنا إلى الأعمال والواجبات المنزلية نجد أنها تعتبر من أهم المواقف الحياتية التي تربي في الطفل تحمل المسئولية، ولكنها في بعض الأحيان تتحول إلى صراع بين الآباء والأبناء، ومن ثم وجب على الأم أو الأب وهو يعطي لأبنائه مسئوليات في المنزل أن يراعي نقطتين:
ـ يجب ألا يثقل كاهل طفله بالأعباء الكثيرة والمسئوليات، فهذا يمكن أن يشعره بالاستياء والتذمر.
ـ عليه بمراعاة عمر الطفل والأعمال التي يكلفها به، كذلك أيضًا مراعاة كون الطفل ولد أم بنت فهناك أعمال تتناسب مع الفتيات كأعمال المطبخ وأعمال أخرى تتناسب مع الأولاد.
دور هام:
قد يكون عدم استطاعة الابن أداء بعض الأعمال نابعة من عدم الثقة فيه، فتجد ربما الآباء لا يثقون بأبنائهم، فقد تكون القدرات والإمكانات متوفرة بالابن، ولكن قد يكون للبيت دور في إضعاف الابن ثقته بنفسه، فللوالد دور هام في منح الثقة لولده؛ حتي يؤمن الولد بقدراته وإمكاناته، (فإن دور الأب في تلك الحالة، هو أن يأخذ بيد أبنائه لجعلهم رجالًا أصحاب قيم وشخصيات ذات قيمة وأهداف، وهو المانح الأكبر لثقة الأبناء بذواتهم، إذ يتوقع الطفل دائمًا من أمه أن تمدحه لأنها تحبه، أما إذا مدحه الأب أو أشعره بأهميته، أو كلفه بعمل على وجه الثقة فيه، فإن الابن يرى أنها حقيقة، وأن والده فعلًا فخور به، واثق بقدراته، وعندما يشعر الطفل بأهميته لدى والده؛ فإنه يشعر بأهميته لدى الآخرين، فيحاول أن ينتج أشياء ذات قيمة، ويصبح خلَّاقًا، ويكافح من أجل الحفاظ على هذا الاهتمام؛ فتتكون لديه الثقة بالنفس) [هداية الله، موسوعة التربية العملية للطفل، أحمد شاش، ص(108)].
وغرس الثقة بالنفس لدى الطفل يكون في المراحل الأولى من حياته، (فينبغي في المرحلة الأولى من حياة الطفل تكريس شعور هام لديه مرتبط بنشاطه الذهني الآخذ بالتشكل، وهو الشعور بالنجاح، إن هذا الشعور يولد لدى الطفل في مرحلة مبكرة جدًا، فهو يفرح كثيرًا عندما نثني عليه، ويشعر ببالغ الأسى إذا وجهنا إليه اللوم أو التأنيب على أخطاء ارتكبها، إن شعور الفرح يقوي الرغبة في القيام بالأعمال المختلفة بشكل أفضل وأدق، أما التكدر فإما أن يطفئ الرغبة والاندفاع، أو يولد موجة من الطاقات للسعي لتصحيح الأخطاء، وتجاوز الهفوات والحصول على نتائج أفضل، غير أن المشاعر الإيجابية أكثر تحفيزًا للنشاط) [تربية مشاعر الأطفال في الأسرة، عبد المطلب أبو سيف، ص(85)].
كيف توجد الثقة في ابنك؟
(عليك أن توضح لطفلك أنه شخص هام بأنه تعامله معاملة حسنة, وخير مثل يوضح ذلك هو مثال "اللبن المسكوب"، لتفترض أنك قد دعوت واعظ منطقتك إلى العشاء، وأنه قد قام أثناء تناوله هذا العشاء بسكب كوب من اللبن، فكيف يكون رد فعلك؟ حينئذ تقول: "إن هذه الحوادث تحدث دائمًا، لا عليك فذلك، شيء عادي انتظر، دعني أجففه، دعني أنظف مكانه، وكيف يكون رد فعلك إذا ما سكب طفلك كوبًا من اللبن؟ إنك ستقول: "لا للمرة الثانية! لقد أمرتك أن تكون أكثر حرصًا يالك من طفل أخرق، لقد أفسدت غطاء المائدة".
إن عليك أن تتقبل أطفالك وأن تحبهم بالحال التي هم عليها، ولا يعني ذلك أن عليك أن تشجع زلاتهم، بل أحب طفلك بغض النظر عن زلاته, وقل له "إنني أحبك، بيد أني لا يروقني ما فعلته"فذلك يتيح له الفرصة ليعلم أنك تحبه، ولكنك لا يعجبك خطؤه) [كيف تكون قدوة حسنة لأبناءك، سال سيفير، ص(100-101)].
قصة رمزية:
تحكي القصة أنه (كانت عشيرة من العشائر على أهبة الرحيل، تطوي البيوت وتضع المتاع على جمالها، وأناخ جمل من الجمال، فأثقلوه بمتاعهم حتى لم يستطع الحراك.
ثم انتبه القوم إلى دفتي رحى مما يستعملون في طحن الحبوب، فقام رجل منهم يضع الرحى على ظهر ذلك الجمل، والتفتت عجوز من العشيرة فقالت عطفًا على الجمل:
ـ لا تضعوا الرحى عليه بل ضعوها على ظهر جمل غيره.
لكن الجمل التفت إليها وقال:
ـ بل ضعوها على ظهري، لا ضرر في ذلك إنني لن أستطيع القيام على كل حال.
هذه هي عبرة القصة: إن كل من يضع عمل ابنه في ظروف تجعله فوق طاقته، يحكم عليه ألا يعمل شيئًا، وإن حاول الابن رغم ذلك القيام بشيء فسوف لا يحسن صنعًا) [بين الرشاد والتيه، مالك بن نبي، ص(79-82)، بتصرف].
فإن كنت أخي المربي قد تعبت مع أبنائك فيما تكلفهم به من عمل، وأرهقت الصراخ فيهم للقيام بواجباتهم المنزلية، فيجب أن تعلم تلك الحكمة العظيمة وهي "إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع".
ماذا بعد الكلام؟
ـ يجب أن تعرف جيدًا مواطن الضعف والقوة لدى ولدك وعلى أساسها تقوم بإعطائه الأعمال التي تناسبه.
ـ من المهم جدًا أن تطور ابنك، فيجب أن تقوم بتنمية الجوانب الإيجابية، أما الجوانب السلبية التي فيه فيجب أن تحرص على أن تزيلها بحيطة وحذر.
المصادر:
• بين الرشاد والتيه، مالك بن نبي.
• كيف تكون قدوة حسنة لأبناءك، سال سيفير.
• اللمسة الإنسانية، محمد محمد بدري.
• مسئولية الأب المسلم، عدنان حسن صالح باحارث.
• مدارج السالكين، ابن القيم.
• جريدة الصباح.
• هداية الله، موسوعة التربية العملية للطفل، أحمد شاش.
• تربية مشاعر الأطفال في الأسرة، عبد المطلب أبو سيف.
المصدر: موقع مفكرة الإسلام